الإخلاص الذي ينفي الرياء .
والإخلاص مأخوذ من مادة أخلص، التي تدل على تنقية الشيء وتهذيبه. وهو: إفراد الحق - سبحانه - بالقصد في الطاعة، وتصفيةُ الفعل عن ملاحظة المخلوقين. وقد قُرئ قوله - تعالى -: ﴿ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [الحجر: 400] بالكسر، أي: الذين أخلصوا دينهم عن الشَّوائب. وقرئ: ﴿الْمُخْلَصِينَ ﴾ [الحجر: 400] بالفتح، أي: الذين أخلصهم الله بالهداية. وهذا استثناء من إبليس للذين لا يستطيع غوايتهم، في قوله: ﴿ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ص: 82، 833]. قال الرازي - رحمه الله -: "اِعلم أن إبليس استثنى المخلصين، لأنه علم أن كيده لا يعمل فيهم، ولا يقبلون منه". فالإخلاص مكابدة صعبة، لترويض النفس على التوجه إلى الله وحده، من غير حظ للمخلوقين، ولا نصيب للناظرين.
قال الجنيد - رحمه الله -: "الإخلاص: سرٌّ بين العبد وبين الله - تعالى -، لا يعلمه مَلكٌ فيكتبَه، ولا شيطان فيفسدَه، ولا هوًى فَيُمليَه". وهذا هو الدين الذي يطلبه منا شرعنا. قال - تعالى -: ﴿ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ﴾ [الزمر: 33]. وقال - تعالى -: ﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ﴾ [الزمر: 111]. ولما سأل أبو هريرة - رضي الله عنه - النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟"، أجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ" البخاري. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لَنْ يُوَافِيَ عَبْدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، يَبْتَغِي بِهِا وَجْهَ اللهِ، إِلاَّ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ النَّارَ" البخاري.
فنرى - من خلال هذه النصوص - ضرورة تلبس العبادة بالإخلاص، حتى يتحقق صدق كلمة التوحيد. قال ابن تيمية - رحمه الله -: "ولا بد في جميع الواجبات والمستحبات، أن تكون خالصة لرب العالمين، كما قال - تعالى -: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [البينة: 55].
فمن نطق بكلمة التوحيد، أو ادعاها، أو دعا إليها، يبتغي بذلك من السامعين ثناء، ومن الناظرين سمعة ورياء، ومن أصحاب الوجاهة حظا واعتناء، صارت كلمة التوحيد - يوم القيامة - شاهدة عليه لا له، وحجة ضده لا معه. قال ابن القيم - رحمه الله -: "لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبةُ المدح والثناء والطمع فيما عند الناس، إلا كما يجتمع الماء والنار".
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "من عمل خيرا ًمع المخلوقين، سواءً كان المخلوق نبياً، أو رجلاً صالحاً، أو ملِكاً من الملوك، أو غنياً من الأغنياء، فهذا العامل للخير مأمور بأن يفعل ذلك خالصاً، يبتغي به وجه الله - تعالى -، لا يطلب من المخلوق جزاءً، ولا دعاءً، ولا غيره".
وهذا مضمار أصحاب القلوب الزكية، والنفوس السمية، التي تخلصت من شوب الدنيا، فلم تر إلا الخالق وحده، الذي ﴿ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ ﴾ [المؤمنون: 888].
قال ابن القيم - رحمه الله -: "وكمال التوحيد، هو ألا يبقى في القلب شيء لغير الله أصلاً، بل يبقى العبد موالياً لربه في كل شيء: يحب من أحب وما أحب، ويبغض من أبغض وما أبغض، ويوالي من يوالي، ويعادي من يعادي، ويأمر بما يأمر به، وينهى عما نهى عنه".
ومتى تحقق هذا الإخلاص، عاد على صاحبه بعظيم المنافع، وجليل الفوائد، وهي كثيرة، نقتصر على أربعة منها:
1- بالإخلاص تُدفع شدائد الدنيا العظام، وتُدرأ محن الحياة الجسام. قال ابن القيم - رحمه الله -: "فما دُفعت شدائد الدنيا بمثل التوحيد. ولذلك كان دعاء المكروب بالتوحيد، ودعوة ذي النون - التي ما دعا بها مكروب إلا فَرَّج الله كَربه - بالتوحيد. فلا يُلقي في الكُرَب العظام إلا الشرك، ولا يُنجي منها إلا التوحيد، فهو مَفزَع الخليقة وملجؤها، وحصنها وغياثها".
2- الإخلاص يُكسب الفهم عن الله، فيستنير القلب بنور الله، وتشرق النفس بتوفيق الله. قال الخطيب البغدادي - رحمه الله -: "الإخلاص لله يورث الفهم عن الله". وقال ابن القيم - رحمه الله -: "وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد، يمده تقوى الرب، وحسنُ القصد".
ولذلك شدد علماؤنا على أهمية الإخلاص في طلب العلم، حتى تكون الدعوة إلى كلمة التوحيد عند القلوب محمودة، ومن النفوس مقبولة. قال الخطيب البغدادي - رحمه الله -: "إن العالِم إذا لم يُرد بموعظته وجه الله، زلت موعظته عن القلوب كما يزل الماء عن الحجر". وقال - أيضا -: "فينبغي لطالب العلم أن يخلص في الطلب نيته، ويجدد للصبر عزيمته، فإذا فعل ذلك كان جديراً أن ينال منه بغيته".
وكلما أخلص الطالب لله، كلما أجرى الحكمة على لسانه، والاستقامة على أفعاله، فاستأنس الناس بعلمه، واطمأنوا إلى نصيحته، وتأثروا بموعظته. قال شيخ الإسلام: "والإخلاص لله: أن يكون الله هو مقصود المرء ومراده، فحينئذ تتفجر ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه". وقال ابن القيم: "اُصدق في الطلب، وقد جاءتك المعونة".
3- والإخلاص سبب في مغفرة الذنوب، والتجاوز عن المعاصي، والصرف عن السوء والفحشاء. قال - تعالى -: ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ [يوسف: 244]. قال ابن رجب - رحمه الله -: "فإن كَمُل توحيد العبد وإخلاصه لله، وقام بشروطه كلها بقلبه ولسانه وجوارحه، أوجب ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب".
4ـ المخلص يبقى في عقبه أثر عمله، ويزدهر بين الناس صالح ذكره، فتتضاعف حسناته، ويتعاظم أجره. قال الإمام مالك - رحمه الله -: "ما كان لله بقي". وقال ابن الجوزي - رحمه الله -: " فمن أصلح سريرته، فاح عبير فضله، وعَبَقت القلوب بنشر طيبه. فاللهَ اللهَ في إصلاح السرائر، فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح الظاهر".
وأبق لك الذكر الجميل تدم به ♦♦♦ فما لسوى الذكر الجميل بقاء
وحقيقة الإخلاص أن يمنع نوعين من الرياء:
♦ الرياءَ الأكبر: وهو النفاق المخرج عن الملة. قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 142، 1433].
♦ الرياءَ الأصغر: كالعبادة للخالق مع التصنع للمخلوق، يجمع بين طلب الآخرة، وطلب الدنيا. يحب أن يرضى الله عنه، كما يحب أن يراه الناس. له من عمله حظ لله، وحظ للنفس. فهذا ينقص معه ثواب العمل، واستفحاله قد يحبط العمل. يقول - تعالى - في الحديث القدسي: "أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ. مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ" مسلم.
وللسلف مواقف عجيبة مع الإخلاص:
♦ كان عبد الرحمن بن أبي ليلى - رحمه الله - يصلي في بيته، فإذا شعر بأحد، قطع صلاة النافلة ونام على فراشه كأنه نائم، فيدخل عليه الداخل ويقول: هذا لا يفتر من النوم، غالب وقته على فراشه نائم، وما علموا أنه يصلي ويخفي ذلك عليهم.
♦ وقال الأعمش - رحمه الله -: "كنت عند إبراهيم النخعي وهو يقـرأ في المصحف، فاستأذن عليه رجل، فغطّى المصحف وقال: لا يراني هذا أني أقرأ فيه كل ساعة".
♦ ووقف رجل يصلي في المسجد، فسجد وجعل يبكي بكاءً شديداً، فجاء إليه الصحابي أبو أمامة الباهلي - رضي الله عنه - فقال له: "أنت، أنت، لو كان هذا في بيتك".
♦ وكان محمد بن سيرين - رحمه الله - يضحك في النهار حتى تدمع عينه، فإذا جاء الليل قطّعه بالبكاء والصلاة".
♦ وقال الشافعي - رحمه الله -: "وددت أن الناس تعلموا هذا العلم على ألا يُنسب إليَّ منهُ شيء".
ما بال دينك ترضى أن تدنسه وثوبُك الدهرَ مغسول من الدنس ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليَبَس