الأعمال التي يصل ثوابها إلى الميت .
إذا مات ابنُ آدم انقطع عمله، ولم يصل إليه من العمل إلا ما استثناه الشارع، وهو قسمان:
أحدهما: ما تسبَّب إليه الميت في حياته، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مات ابنُ آدم انقطع عملُه إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علمٍ يُنتفَعُ به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له))، وكما في حديث أنس المرفوع: ((سبعٌ يجري على العبد أجرُهن وهو في قبره بعد موته: مَن علَّم علمًا، أو كرى نهرًا، أو حفر بئرًا، أو غرس نخلًا، أو بنى مسجدًا، أو ورث مصحفًا، أو ترك ولدًا صالحًا يستغفر له بعد موته))، وكما في حديث أبي هريرة الذي رواه ابن ماجه بسند حسن، والبيهقي وابن خزيمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن مما يَلحَقُ المؤمنَ من عمله وحسناته بعد موته علمًا علَّمه ونشره، وولدًا صالحا تركه، أو مصحفًا ورَّثه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقُه من بعد موته))، وكما في الحديث الذي رواه مسلم: ((مَن سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن يَنْقُصَ من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنةً سيئة كان عليه وزرُها ووزرُ مَن عَمِل بها من بعدِه، من غير أن يَنقُصَ من أوزارهم شيء))، وما رُوِي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس من نفْس تُقتَلُ ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كِفْل من دمها؛ لأنه كان أولَ من سنَّ القتل))؛ رواه البخاري ومسلم.
الثاني: دعاء المسلمين واستغفارُهم له، والصدقة عنه، ووفاء دَيْنِه، والحجُّ له، والأضحية عنه، ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ﴾ [الحشر: 10]؛ فأثنى عليهم سبحانه باستغفارهم للمؤمنين قبلَهم، وقد دلَّ على انتفاع الميت بالدعاء إجماعُ الأمة على الدعاء في صلاة الجنازة، والأدعية التي ورَدَت بها السنة في صلاة الجنازة مستفيضة؛ منها: ما قاله عوف بن مالك: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جِنازة، فحَفِظْتُ من دعائه وهو يقول: ((اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم منزله، ووسِّع مدخلَه، واغسله بالماء والثلج والبَرَد، ونقِّه من الذنوب والخطايا كما نقَّيْتَ الثوب الأبيض من الدَّنس، وأبدلْه دارًا خيرًا من داره، وأهلًا خيرًا من أهله، وزوجًا خيرًا من زوجه، وأدخله الجنة، وأعِذْه من عذاب القبر ومن عذاب النار))، حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت؛ لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك الميت، رواه مسلم.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول في صلاته على الجنازة: ((اللهم أنت ربُّها، وأنت خلقتَها، وأنت هَديْتَها للإسلام، وأنت قبَضْتَ روحَها، وأنت أعلمُ بسرِّها وعلانيتها)) الحديثَ، رواه الإمام أحمد يرحمه الله.
وفي سنن أبي داود يرحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: ((إذا صلَّيْتم على الميت فأخلصوا له الدعاء)).
وعن عائشة وأنسٍ أنه عليه السلام قال: ((ما من ميِّتٍ يُصلِّي عليه أمة من المسلمين يَبْلُغون مائةً كلُّهم يشفعون له - إلا شُفِّعوا فيه))؛ رواه مسلم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من رجلٍ يموتُ، فيقوم على جنازته أربعون رجلًا، لا يشركون بالله شيئًا - إلا شفَّعهم الله فيه))؛ رواه مسلم.
وكذلك الدعاء للميت بعد الدفن؛ ففي سنن أبي داود من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا فَرغ من دفن الميِّت، وقف عليه فقال: ((استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيتَ؛ فإنه الآن يُسأل))، وكذا الدعاءُ لهم عند زيارة قبورهم.
• ومن أدلةِ وصول ثوابِ الصدقة: ما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلًا أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أمي افتُلِتَتْ نفسُها ولم تُوصِ، وأظنها لو تكلَّمت تصدَّقتْ، أفلها أجرٌ إن تصدَّقْتُ عنها؟ قال: ((نعم)).
وفي صحيح البخاري عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن رجلًا أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أمي تُوفِّيت، وأنا غائب عنها، فهل ينفعُها إن تصدَّقْتُ عنها؟ قال: ((نعم))، قال: فإني أشهدُك أن حائطي المخراف صدقةٌ عنها.
• ومن الأدلة على وصول ثواب الحج للميِّت، وبراءة ذمَّته من الدَّيْنِ إذا قُضي عنه - ما رُوِي في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأةً من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذَرَتْ أن تَحُجَّ فلم تحجَّ حتى ماتت، أفأحُجُّ عنها؟ قال: ((حجِّي عنها، أرأيتِ لو كان على أمِّك دَيْنٌ أكنتِ قاضيتَه؟ اقضوا اللهَ؛ فاللهُ أحقُّ بالوفاء)). وحديث أبي قتادة، حيث ضَمِن الدينارين عن الميت، فلما قضاهما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الآن بَرَدَتْ جلدتُه)).
• وأما الأضحيةُ: فقد دلَّ عليها عموم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي: ((اللهم هذا عني، وعن مَن لم يُضَحِّ من أمتي))، وحديث الكبشَيْنِ اللَّذَيْنِ قال في أحدهما: ((اللهم هذا عن أمتي جميعًا))؛ رواه أحمد.
والقربة في الأضحية إراقةُ الدَّمِ، وقد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم لغيره، والأصل فيها أنها عن الحيِّ، ويدخل الميِّت معه بإشراكه فيها.
• أما العبادات البدنيَّة غير الحج؛ كالصلاة، والصوم، وقراءة القرآن، ففي وصولها إلى الميت خلافٌ، والأرجح أن الصوم الواجبَ يَصِلُ؛ لما رُوِي في الصحيحَيْنِ عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن مات وعليه صوم، صام عنه وَلِيُّه)).
• وأما استئجارُ قومٍ يقرؤون القرآن، ويهدونه للميِّت، فهذا لم يفعله أحدٌ من السلف، ولم يُنقَلْ عن أحد من أئمة الدين ولم يُرخَّص فيه؛ والاستئجار على نفس التلاوة غيرُ جائز بلا خلاف؛ وفي "الاختيار": لو أوصى بأن يُعطَى شيءٌ من ماله لمن يقرأ القرآن على قبره، فالوصية باطلة.
وكَرِه أبو حنيفة، ومالك، وأحمد في روايةٍ قراءةَ القرآن عند القبور مطلقًا وقتَ الدفن وبعده، وأما تناوب قبر الميت للقراءة عنده فهذا بدعة مكروهة؛ لأنه لم تأت به السنة، ولم يُنقَلْ عن أحد من السلف مثل ذلك أصلًا.